الأربعاء، 3 فبراير 2010

تــاكــسـى

حين لمحتها فى المرة الأولى بسيارتها ربما لم تثر داخلى سوى الفضول والرغبة فى الكتابة عن تجربة سيدة تعمل سائقة تاكسى .. لكنى حين استوقفتها وطلبت منها الكلام وتمنعت هى فى البداية لم اكن ادرى اننى امام ام وزوجة صابرة انتهك الجميع عهودهم معها الأخت والزوج والصحة والأهل ولم تعد تملك بعدها سوى ولديها.. ابنة وابن مريض بالقلب..

هل تذكر تلك التيمة المميزة للأم الجسم الممتلئ قليلا والوجه الرقيق والإيشارب الخفيف الملفوف حول الوجه والشال الأسود المميز الذى يسألك ان تلقى برأسك فوقه دافنا كل همومك معه كذلك كانت هى بكل تفاصيلها الصغيرة إلا أنها هذه المرة كانت تلعب دور سائقة تاكسى ... رفضت ان تخبرنى بأسمها أو اى تفاصيل يمكن من خلالها معرفتها او التوصل اليها .. رغم انها ليست هاربة من حكم قضائى او تمارس عملا ينافى القانون .. فقط لأنها ورغم سنها الكبيرة نوعا لا تزال تخشى سلطة الأهل وقواعد الأسرة التى ترى أن عملا كعملها من الأمور الجالبة للعار لهم ..وحين وافقت اخيرا بشروطها وقالت : سجلى .. الاسم مش مهم .. اكتبى اى اسم ثم استكملت وقالت لى : أنا من عائلة كبيرة جدا ومعروفة .. واشتريت التاكسى عندما تركنى زوجى وتزوج اختى الوحيد بعد 20 سنة زواج رغم ن عندى بنت وولد لكنه تركنى من اجلها بعدما لعبت عليه اختى لأنها كانت تحب الفلوس وهو كان غنى جدا ومليونير .. فكرهته فىَ وفى اولادى لدرجة أنه ظن أننى واولاده طمعانين فى ثروته وان هذا هو سبب استمرارنا معه فقط .. وصدقها وطلب منها الزواج ووافقت هى وطلقنى هو فلم اجد امامى بعدها سوى ان اسكن بشقة ايجار .. وبعد بيع شقتى سددت الديون التى تراكمت على بعد انفصالى عنه واشتريت التاكسى كى يصبح مصدر دخل رغم انى املك عربية لكنى لم ابعها لأن ابنى مريض بالقلب فقلت فى اى وقت طوارئ اذا احتاج نقل سريع الى المستشفى تسعفنا السيارة.. فى البداية طبعا اشتغل على التاكسى سائقيين كثيرين لكنى لم ارتاح معهم وبيعونى أثاث بيتى .. وطبعا كانوا يسرقونى .. وأنا الآن أعمل عليه بدلا منهم .. هذه هى قصتى بكل بساطة ..

هكذا انهت روايتها واستمرت فى طريقها بعزلة لا مبالية وثقة من يعلم أن لا احد يملك له شيئا ..فقد كانت طوال سردها لقصتها متماسكة وصلبة .. بلا استدرار للشفقة او انتظار اى كلمة تشجيع او مديح فى الوقت الذى كنت احاول انا استيعاب كل ما قالته ومجاراتها فى صلابتها دون ابداء الشفقة او التعاطف اللذين قد يجرحا تماسكها الزائف امامى لذلك سألتها عن مدة هذه القصة ومدة عملها على التاكسى؟ لترد : منذ مدة طويلة ولن أقل منذ متى وتستكمل قائلة : انا عائلتى تعرف بحكايتى وبما حدث لى وانى اشتريت تاكسى وبشغل ناس عليه لكن لا يعرفوا اننى انا من اعمل على التاكسى لأن هذا معناه "إنى جبت عائلتى الأرض "..لأن احنا عائلة عريقة وعلى مستوى عالى وانا نفسى خريجة مدارس وكليات اجنبية ..

هل مكسب التاكسى مربح؟ فى اول سنة اشتغلت فيها على التاكسى لم أكن أعرف الطرق او الشوارع وكنت اتوه كثير ولم اكن اكسب وكانت الزبائن تعطينى نصف الأجرة على اساس إنى اسألهم على الطريق فيعرفوا إنى جديدة وكانوا " بيستعبطونى" لكن الحمد لله الآن عرفت مختصرات الطرق وعرفت اكسب كويس .

مشاكلها فى تلك المهنة تكاد تقتصر على الزحمة ومشاكل التاكسى فتقول : لا يضايقنى شئ غير الزحمة فالمسألة تحتاج جلد على المهنة عشان اعرف اجيب فلوس وعلى قد ما بشتغل على قد ما اجيب فلوس لكن انا مبقدرش اشتغل كثير لأن القعدة نفسها شقا .. وانا مريضة اصلا لأن همى وتعبى نفسيا تحول الى مرض عضوى اصابنى .. وكثيرا ما ابكى اثناء سيرى بالتاكسى لأن من فعلت بى ذلك كانت اختى الوحيدة التى افضلها عن كل اخوتى وكنت احبها جدا .. وعلى اخر اليوم جسمى كله يكون مكسر و لأن العربية ايضا موديل قديم تتعطل كثيرا وتأكل اكثر مما ناكل .. وتحتاج تراخيص اخر السنة ومخالفات وضرائب وكلها مصاريف تأتى دون حساب والنتيجة انى اضطر استلف واطلع العربية فى التجديد واجددها وارخصها وابدأ اسدد طوال السنة مصاريفها ..

وما موقف ولديك من عملك ؟ اولادى يعلمون وهم مرحبين ويشجعوننى وكلهم مؤهلات عليا .. وعن يوم تلك الام اثناء مشوارها الدائم فى ضواحى القاهرة تقول : انا بصوم كل يوم لأنى وانا شابة كان على ايام واوقات كنت افطر عمد فى رمضان .. وانا اندم الآن على ذلك واكفر عنها بالصيام كل يوم .. فبعد ما اصلى الظهر اطلع بالعربية واروح البيت على الفطار واريح بعدها ساعة وانزل تانى ساعتين او ثلاثة اجيب فيهم ثمن البنزين .. وربنا الموفق ويكفينا شر طريقنا يارب.. أن تصبح الشمس هى مصدر كل الدفء على الارض هو امر طبيعى اعتدنا عليه ونتلقاه دائما دون سؤال لكن أن نصحو يوما لنجد الشمس تطلب منا ان نعطيها مزيدا من الدفء فهذا امر يدعو الى الفزع وعدم الامان .. وهذا بالضبط ما شعرت به بعد ان سمعت منها ما رفضت ان تبوح به فى البداية ..

أيتها الأم أيا ما كان اسمك فأنا اعتذر لك نيابة عن الجميع عمن غدر وعمن تركك وحيدة وعن من اكتفوا بترتيب قائمة العيب والمرغوب والممنوع دون الاهتمام بأى الطرق تدبرين بها امرك شرط ألا تتجاوز خريطة العيب التى وضعوها .. اعتذر لك عن مجرد كلمات منمقة اهديتها لك وعبارات لا تهدف سوى الى تشجيعك ودفعك الى مواصلة اصرارك ونجاحك المضطر دون ان اقدم لك فعليا ما استطيع به ان احفظ به راحتك واستقرار امنك الداخلى